يعد أبو العباس أحمد بن يحي بن محمد بن عبد الواحد بن علي الونشريسي من أهم فقهاء الغرب الإسلامي تأثيرا في الحياة الثقافية خلال الفترة المتأخرة من العصر الوسيط، ومرد هذا التأثير يعود إلى مساهمته القيمة في مجال التأليف في مجالات الفقه والنوازل والوثائق.
مولده ونشأته
ولد أبو العباس أحمد بن يحي بن محمد بن عبد الواحد بن علي الونشريسي الأصل ، بمنطقة ونشريس حوالي العام 834هـ، بمنطقة الحجالوة، بلدية الأزهرية 70 كلم عن مقر عاصمة الولاية تيسمسيلت، حفظ القرآن الكريم ومبادئ العربية والفقه بقريته على يد والده، ولا يزال الموضع الذي ولد فيه يسمى إلى الآن بـ " سيدي أحمد المعيار" نسبة إلى مؤلفه الشهير " المعيار المعرب والجامع المغرب في فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب"، وغير بعيد عنه يوجد مزار لبيت والده يسمى بـسيدي يحي" قاضي مازونة.
و لما بلغ ثماني عشرة سنة (18 سنة) ارتحل إلى مازونة التي كانت حاضرة من حواضر العالم الإسلامي يومها، ولأن جده كان قاضيا شرعيا بها، حيث مكث بها حوالي سبع سنوات (07 سنوات) قضاها في طلب العلم وتحصيله في مختلف العلوم الشرعية. ومن مازونة انتقل إلى تلمسان وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي يومئذ حاضرة علمية تعجّ بأساطين العلم والفقه والأدب، ليجلس بعد ذلك على كرسي الدرس ويتصدى للفتوى بحاضرة تلمسان وما جاورها. وذاع صيته في بقية الأقاليم، خاصة مجلسه الذي عكف فيه على تدريس المدونة، ومختصر ابن الحاجب، وغيرها من فنون العلم والفقه، متمكنا من الفقه المالكي مشتغلا به تعليما وتأليفا وفتياً، كما أنه اشتهر بالنحو وفصاحة اللسان والكتابة حتى قيل عنه : لو حضر سبويه لأخذ النحو من فيه.
شيوخه
تلقى أبو العباس أحمد بن يحي الونشريسي العلم في مسقط رأسه بمنطقة الحجالوة، ثم انتقل إلى مازونة أين أخذ بحظ وافر من العلم على يد علمائها، وواصل رحلة طلب في تلمسان على يد شيوخها، ومنهم محمد بن العباس العبادي، وقاسم بن سعيد العقباني التلمساني، ومحمد بن أحمد بن قاسم بن سعيد العقباني، ومحمد بن أحمد بن عيسى بن الجلاب، وأحمد بن محمد بن زكري المانوي التلمساني، ومحمد بن مرزوق الكفيف، وإبراهيم بن قاسم بن سعيد العقباني، ومحمد بن قاسم القوري.
تلاميذته
تخرّج على يديه خَلْقٌ كثير من العلماء، ممن كانت إليهم أمور التدريس والقضاء والفتيا من بعده، منهم ولده شهيد المحراب، قاضي قضاة فاس عبد الواحد بن أحمد بن يحيى الونشريسي، والفقيه النوازلي أبو عياد بن فليح اللمطي، تفقه عليه ولازمه في مختصر ابن الحاجب، والفقيه الصالح، شيخ الفقهاء بسوس أبو محمد الحسن بن عثمان الجزولي، والفقيه أبو محمد عبد السميع المصمودي، والقاضي أبو عبدالله محمد بن القاضي الناظر أبي عبد الله محمد الغَرْدِيسي التَغْلِبي (ت897هـ، وبخزانته انتفع في تصنيف كتاب المعيار، ومنهم عالم فاس وفقيهها، وحامل لواء المذهب بها أبو الحسن علي بن هارون المظغري، وغيرهم كثير.
تخرّج على يد الونشريسي مجموعة مهمة من الفقهاء والعلماء ومنهم، ابنه عبد الواحد الونشريسي ومحمد بن عبد الجبار الفجيجي وأبي عياد بن فليح اللمطي ويحي بن مخلوف السوسي محمد بن عبد الجبار الورتدغيري ومحمد بن محمد الغرديس التغلبي والحسن بن عثـمان الجزولي وعبد السميع المصمودي.
وُصف الونشريسي بالعلاّمة المصنف الأبرع، الفقيه الأكمل الأرفع، البحر الزّاخر، والكوكب الباهر،حجّة المغاربة على أهل الأقاليم، فخرهم الذي لا يجحده جاهل ولا عالم ...كان من كبار العلماء الراسخين والأئمة المحققين.
كما حظي بمدح أغلب من ترجموا له، فهذا ابن عسكر يورد ما قاله ابن غازي في دوحة الناشر: لو أن رجلا حلف بطلاق زوجته أن أبا العباس الونشريسي أحاط بمذهب مالك أصوله وفروعه، كان بارّا في يمينه ولا تطلق عليه زوجته.
لقد كان مشاركا في فنون من العلم، إلا أنه أكبّ على تدريس الفقه فقط، فيقول من لا يعرفه، إنه لا يعرف غيره، كان فصيح اللسان والقلم حتى كان بعض من يحضر تدريسه يقول لو حضر سيبويه لأخذ النحو من فيه.
مؤلفاته
اشتهر الونشريسي بعدة تأليف مهمّة أبرزها:
- كتابه المعيار الـمُعْرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والـمغرب، وهو من أعظم الكتب التي كادت تحيط بمذهب الإمام مالك، والكتاب مطبوع متداول، وقد طبع بفاس في 12 مجلدا، جمع فيه فتاوى ونوازل ونصوصا ذات أهمية بالغة في معرفة الحياة الاجتماعية والسياسية والعلمية والاقتصادية في المغرب والأندلس في عصور مختلفة، قال صاحب نيل الابتهاج (جمع فأوعى وحصل فوعى)
- إضاءة الحلل في الرد على من أفتى بتضمين الراعي المشترك.
- المنهج الفائق والمنهل الرائق بأدب الموثق.
- الولايات في مناصب الحكومة الإسلامية والخطط الشرعية.
- ايضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك.
- أسنى المتاجر وبيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر.
- غنية المعاصر والتالي في شرح فقه وثائق أبي عبد الله الفشتالي.
- عدة البروق في تلخيص ما في المذهب من الجموع والفروق.
- الفروق في مسائل الفقه.
- مختصر أحكام البرزلي.
- كتاب: وفيات الونشريسي.
- تعليق على ابن الحاجب الفرعي في ثلاثة أسفار.
- شرح الخزرجية في العروض، تحقيق و تعليق الأستاذ الدكتور قردان الميلود
وفاته
توفي الونشريسي عـام أربعة عشر وتسعمائة(914هـ/1508 م) عن عمـر يناهز الثمانين سنة، وكانت وفاته يوم الثلاثاء موفى عشرين من صفر، وقد ذكر البغدادي، صاحب كتاب هدية العارفين، في ترجمته للونشريسي أنه توفي بتلمسان.
تركت وفاة الونشريسي فراغا كبيرا في ميدان الفقه ولم يستطع أحد أن يبلغ رتبة الونشريسبي في الفقه المالكي تأليفا ودرسا. ولذلك صدق الذين رثوا الونشريسي بأنهم فقدوا بفقده منارة عالية في الفقه المالكي وأن المغرب العربي قد خلا بعده من أمثاله. وقد اشترك في رثائه عدد من العلماء والشعراء. ويكفي أن نورد هنا ما أورده أحمد المقري في كتابه (أزهار الرياض) من رثاء منسوب إلى محمد الوادي آشي الغرناطي نزيل تلمسان، وهو هذه الأبيات: